فصل: تفسير الآيات (26- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (26- 27):

{قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)}.
التفسير:
الحسد هو الذي يفسد على كثير من الناس أمورهم، فلا يرونها على وجهها الصحيح، وإنما تبدو لهم على الوجه الذي تصوره أوهامهم وأهواؤهم.
وقد استشرى هذا الداء في بنى إسرائيل، فحسدوا أنبياءهم، الذين اصطفاهم اللّه للسفارة بينه وبين عباده، ورموهم بالكذب والبهتان، وبلغ بهم الأمر في كثير من الأحيان إلى قتلهم، شفاء لما في صدورهم من نار الحسد لهم.
وموقفهم من رسول اللّه، وخلافهم عليه، وبهتهم له، لم يكن إلا عن حسد، أعمى قلوبهم عن الحق الذي كانوا على علم به وانتظار له.
ونسى هؤلاء القوم أن نعم اللّه ونقمه إنما هي بيد مالك الملك، الحكم العدل، وأن الحسد لنعمة يلبسها اللّه عبدا من عباده، أو الشماتة في نقمه ينزلها على عبد من عباده كذلك- هو اعتراض على اللّه، ومشاركة له في تدبيره وتقديره.
أما طريق المؤمنين فهو قائم على التسليم لحكم اللّه، والرضا بقضاء اللّه {قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وفى قوله تعالى {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} إشارة إلى أن كل ما يأتى من عند اللّه هو خير، وإن بدا لنا في صورة الشر الخالص.
{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [216: البقرة] وفى قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} استعراض لقدرة اللّه، وعجائب تصريفه في ملكه، إذ يؤلّف بين المتناقضات.. يولج الليل في النهار، ويولج النّهار في الليل، ويستخرج من الشيء نقيضه، فيخرج الحىّ من الميت ويخرج الميت من الحىّ.. وذلك من تمام القدرة، التي لا تكون إلا للّه رب العالمين.
وفى الآية إشارة إلى ما في الآية التي قبلها من قوله تعالى {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا.
{فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [19: النساء].
فالذى يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا.

.تفسير الآية رقم (28):

{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}.
التفسير:
الصلة التي ينبغى أن تقوم بين المؤمنين، هي صلة أخوة ومودة، دون نظر إلى لون أو جنس أو وطن.. فقد جمعهم الإسلام في نسب يعلو على نسب الدّم والجنس والوطن.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [10: الحجرات] وإنه لمن قلب الأوضاع أن ينعزل المؤمن بشعوره هذا من المودة والأخوة عن إخوانه المؤمنين، وينحاز إلى الكفار، يعطيهم ولاءه ومودته وأخوته.
والإسلام الذي يدعو إلى الحبّ والسلام.. إذ يدعو أتباعه إلى التراحم والتواد والتآخى فيما بينهم، لا يجعل ذلك على حساب الصلات الأخوية التي ينبغى أن تكون بين المسلم وبين سائر الناس.. وفى هذا يقول اللّه تعالى في وصايته للمسلمين، في تحديد صلتهم بغير المسلمين: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [8، 9: الممتحنة] فما بين المسلم وغير المسلم هي صلات إنسانية، فيها المودة والألفة والإحسان، إلّا أن يقع بين المسلم وغير المسلم قتال في سبيل الدين، ومن أجل الدين.. عندئذ ينبغى ألا يعطى المسلم ولاءه لمن قاتله في دينه، فذلك خيانة لدينه، فوق أنه خيانة لنفسه ولجماعة المسلمين معه.
وفى قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} نهى عن أن يكون ولاء المؤمن كلّه للكافرين في الوقت الذي لا ولاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، فذلك يقطع صلته بأهل الإيمان والتقوى، على حين يدعم صلته بأهل الإلحاد والكفر، وليس يأمن مع هذا أن تنضح عليه آثار الإلحاد والكفر، وأنه كلما مضى الزمن به كلما ازداد من الإيمان بعدا، وازداد من الكفر قربا.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي بعد عن اللّه، وقطع صلته به، إذ بعد عن المؤمنين وقطع صلته بهم، وقرب من الكفر ووثق صلته بالكافرين.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} استثناء وارد على النهى عن مولاة الكافرين، وهو أنه لا بأس- في ظروف خاصة قد يضطر فيها الإنسان إلى أن يوالى غير المؤمنين- لا بأس أن يفعل الإنسان ذلك، ولكن شريطة أن يكون ذلك لدفع مكروه محقق، عنه أو عن جماعة المسلمين، على أن يكون ذلك موقوتا بوقته، محكوما بظروفه، ينتهى متى مضى الوقت، وتغيرت الظروف، فيعود إلى ولائه الكامل للمؤمنين.
فإذا قامت بينه وبين غير المؤمنين صلة، فلتكن بحساب وحذر!

.تفسير الآيات (29- 30):

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)}.
التفسير:
بعد أن ذكر القرآن الكريم التحذير من موالاة الكافرين، وأباح ذلك في أحوال وظروف خاصة- أشار هنا إلى أن المعتبر في هذا الموقف هو ما انعقد عليه قلب المؤمن من إيمان، وهو في تلك التجربة التي اضطرته الظروف فيها إلى مولاة الكافرين.. فقد أباح الإسلام التقيّة وهى أن يتقى المسلم أذى المشركين بكلمة أو فعل، ليدفع عنه أذاهم، دون أن يدخل من ذلك شيء على قلبه وما انعقد عليه من إيمان، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} [106: النحل] وقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً}.
الظرف هنا {يوم} منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكروا، واحذروا.
فذكر هذا اليوم، وما يلقى فيه الناس جزاء أعمالهم من خير أو شر- يخفف عن الإنسان كثيرا من ضواعط الحياة ومغرياتها، التي تحمله على التضحية بشيء من دينه في مقابل كسب مادى عاجل، أو قضاء شهوة عارضة زائلة.
وفى قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} تنبيه لأولئك الذين يتألّون على اللّه، ويمنّون أنفسهم الأمانىّ بالطمع في رحمته وغفرانه، وهم قائمون على عصيانه، ومحاربته، واستباحة حرماته، والاستخفاف بأوامره.. فهذا من الضلال الذي يفسد على المرء دينه ودنياه جميعا.. إذ لا يتفق عصيان اللّه، والتمرد على شريعته، مع موالاته والطمع في رضاه.
ونعم.. إن رحمة اللّه واسعة، ومغفرته شاملة، ولكن لأهل طاعته، والمتجهين إليه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} [156: الأعراف] وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} بعد قوله سبحانه {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} استصحاب لرحمة اللّه ولطفه بعباده الواقعين تحت بأسه وعذابه، وذلك مما يطمع المذنبين في عفو اللّه ومغفرته، فيرجعون إليه ويمدون أيديهم بالتوبة له، فيجدونه ربّا رحيما غفورا، أما الطمع في رحمة اللّه دون استصحاب العمل على مرضاته، بالنزوع عن مقاربة المنكرات- فذلك مكر باللّه {وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} [54: آل عمران].

.تفسير الآيات (31- 32):

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)}.
التفسير:
ومما هو مكر باللّه ما يدّعيه المدّعون على اللّه من اليهود أنّهم أبناء اللّه وأحبّاؤه، وهم في الوقت نفسه يعادون أولياء اللّه، ويشاقّون رسله، ويقتلون أنبياءه.. فكيف تصح لهم هذه الدعوى، وآخرها ينقض أولها؟
فإن المحبّ الحقيقي يحبّ كل من أحبّ من يحبّ، وإلّا فحبّه لمن أحبّ نزوة طارئة، أو دعوى باطلة.
والعداوة التي يضمرها اليهود للنبىّ، والتي تستعلن في كيدهم له ومكرهم به، لا تستقيم مع دعواهم بأنهم أحباء اللّه، فإن كانوا أحباء اللّه حقّا فليتّبعوا رسوله، وليستجيبوا لما يدعوهم إليه من كلمات ربّه.. إنهم لو فعلوا ذلك لصدقت دعواهم، ولأحبّهم اللّه حقّا، ولغفر لهم ذنوبهم، وما قطعوا من عمر طويل مع الشقاق والنفاق {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فإن أبوا إلا شقاقا ونفاقا، فهم على دعوى باطلة.. إنهم ليسوا أحبابا للّه، بل هم أعداء محاربون له، كافرون بآياته وبرسله {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ} وإنما حبّه للمؤمنين، فمن لبس الإيمان ظاهرا وباطنا، فهو من أولياء اللّه وأحبائه، ومن استبطن الكفر والنّفاق فهو عدوّ للّه، لا يكون محبّا ولا محبوبا.

.تفسير الآيات (33- 34):

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}.
التفسير:
من تصريف اللّه في ملكه أنه يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذل من يشاء! وقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن يصطفى من يشاء من عباده لتلقى هباته وعطاياه.. وإن من عباده الذين اصطفاهم لأفضاله ومنحه.. آدم، ونوحا. وآل إبراهيم، وآل عمران.
فآدم، هو أبو البشر.. وقد اصطفاه اللّه فجعله خليفته في الأرض.
ونوح، هو الأب الثاني للبشرية، بعد أن هلك البشر بالطوفان.
وإبراهيم، هو أبو الأنبياء.. وآله هم هؤلاء الأنبياء من ذريته.
وعمران، هو الفرع الزاكي من شجرة إبراهيم، ومن ذريته موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى.
وفى قوله تعالى: {وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ} إشارة إلى امتداد الاصطفاء من الأصول إلى الفروع.. ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً} لا آل آدم، ولا آل نوح.. لأن ذلك يشمل الإنسانية كلّها، من حيث كان آدم ونوح أبوى البشرية كلها، فلا يكون- والأمر كذلك- مكان للاصطفاء من بين الذرية المصطفاة كلها.
وفى قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ} أي أن هؤلاء المصطفين من آل إبراهيم وآل عمران، هم وآباؤهم من معدن واحد، خلص من شوائب الفساد والكدر، فجاء الفرع مشابها للأصل، طيبا وكرما، وكمالا وحسنا.

.تفسير الآيات (35- 36):

{إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)}.
التفسير:
لقد سمع اللّه مريم إذ تناجى نفسها، وعلم- سبحانه- ما أخفاه عنها من ألطافه ونعمه إذ ناجته بنذرها الذي نذرته، وهو هذا الجنين الذي حملت به.
{إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}.
فإنها ما كادت تتحقق من أن جنينا يتحرك في أحشائها، حتى أقبلت على اللّه بكيانها كله، وإيمانها كلّه، جاعلة هذا الذي وهبها اللّه إياه خادما للّه، محرّرا من كل رباط يربطه بالحياة، ليكون كلّه في خدمة بيت اللّه: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} وضرعت إلى اللّه تعالى أن يقبل هذا النذر، وأن يرضاه لها، تحية شكر له، على ما أنعم عليها من ولد بعد يأس كاد يدخل عليها، ويخرجها من الدنيا عقيما بين النساء: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وجاءها المخاض، وولد المولود الذي كانت تنتظره، فإذا هو أنثى!! ونظرت في وجه مولودتها فحزنت أن جاءت على غير ما كانت تنتظر. إنها كانت ترجو أن يكون وليدها ذكرا، فهو الذي ترى فيه الوفاء بنذرها، حيث هو الذي يصلح للخدمة في بيت اللّه، أما الأنثى فمكانها هناك قلق حرج، بين المنذورين الذين يخدمون في بيت اللّه، وكلهم من الذكور.
ومع هذا، فقد نذرت ما في بطنها محررا لخدمة اللّه، وقد جاء ما في بطنها أنثى، فهى- والأمر كذلك- لا تملك غير هذه التي أعطاها اللّه، فلتقدمها للّه وفاء بما نذرت: {فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى}!! وفى قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْها} إشارة إلى ما تقرر في علم اللّه من أنها لا تضع إلا أنثى، فالضمير المؤنث في {وضعتها} يشير إلى معهود معلوم من قبل الوضع. وذلك ما كان في علم اللّه وتقديره!
وفى قوله تعالى على لسان امرأة عمران: {قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى} ما يكشف عن استحيائها وخجلها من أن تقدم للّه أنثى تخدم في بيته، وكأن اللّه- سبحانه- لم يجعلها أهلا لأن تجيء بالذكر الذي هو أهل لتلك الخدمة.
وقول اللّه تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} ردّ على هذا الشعور الحزين الآسف الذي كان يعتمل في نفسها، وعزاء لها من أن تتحسر أو تحزن أو تعتذر للّه، فاللّه سبحانه {أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} وهو الذي قدّر هذا، وأراد الوليدة لأمر عظيم، ستكشف عنه الأيام، بعد قليل.. وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى} أي أن الذكر الذي كانت تتمناه امرأة عمران وترجوه، لا يتحقق به هذا الأمر العظيم، الذي جعل اللّه إظهاره على يد هذه الأنثى، التي ستلد مولود البشريّة البكر: عيسى عليه السّلام! فهل لو ولدت امرأة عمران ذكرا أكان لهذا الذكر أن يلد عيسى على الأسلوب الذي ولد به؟
ولهذا جاء أسلوب التشبيه على وجه عجيب: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى} وهذا ما جعل المفسرين يتأولون مختلف التأويلات له، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من نظرة، حتى تنحلّ عقدة هذا التشبيه، فإذا هو في أعلى درجات البيان والوضوح.. إنه ليس قائما على مطلق المفاضلة بين الذكر والأنثى، ولكنه قائم على مفاضلة بين الذكر الذي كانت ترجوه امرأة عمران والأنثى التي وضعتها.
فإذا كان ذلك كذلك فهل لأحد قول في أن هذا الذكر ليس كهذه الأنثى؟
محال! ليس الذكر كالأنثى لتحقيق هذا الأمر العظيم الذي أراده اللّه، واختص هذه الأنثى به. وهى أن تلد مولودا من غير أب، هو المسيح.
{وعمران} هذا الذي تحدّث الآية بأنه أبو هذه الأنثى وزوج أمّها {امْرَأَتُ عِمْرانَ} ليس المراد به- واللّه أعلم- أنه زوجها، وإنما هو رجل من آل عمران الذين اصطفاهم اللّه فيما اصطفى من عباده، كما قال تعالى في الآية السابقة {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ}.
وقد وصفت أم مريم هنا بأنها امرأة عمران، إشارة إلى اتصال نسبها بهذا النسب الكريم المصطفى، وكذلك اتصال نسلها بهذا النسب الكريم المصطفى أيضا.. فهى امرأة عمران أي من نسل عمران وابنتها ابنة عمران أي أن ذريتها من نسل عمران كذلك، فهى مصطفاة من مصطفين أخيار، من جهة الأم والأب جميعا!